فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {الحمد لله}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (2):

قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {الحمد لله}:

.قال البقاعي:

ولما أثبت بقوله: {الحمد لله} أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضًا من حيث كونه ربًا مالكًا منعمًا فقال: {رب} وأشار بقوله: {العالمين} إلى ابتداء الخلق تنبيهًا على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي: و: {الحمد} المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملًا معرفًا بكلمة أل وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله. انتهى. ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي: {الرحمن الرحيم} ترغبيًا في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلًا؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين في الأنعام عند: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118] عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن.
ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكًا وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله: {مالِك يوم الدين} ترهيبًا من سطوات مجده.
قال الحرالّي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر، ثم قال: و: {يوم الدين} في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: «إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء» وأيضًا فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا: {مس آباءنا الضراء والسراء} [الأعراف: 95] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كمال قال تعالى: {وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: «الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها» وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام: «المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة» وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقًا في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عودًا على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى: {وسيجزيهم وصفهم} [الأنعام: 193] و: {جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17].
[الأحقاف: 4]، [الواقعة: 24] وبه تم انتهاء الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: «مجدني عبدي» انتهى، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة: {مَلِك} وقراءة: {مالك} جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في: {ملِك الناس} [الناس: 2].
فلما استجمع الأمر استحقاقًا وتحبيبًا وترغيبًا وترهيبًا كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلًا عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدمًا للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة: {إياك} أي يا من هذه الصفات صفاته!: {نعبد} إرشادًا لهم إلى ذلك؛ ومعنى: {نعبد} كما قال الحرالي: تبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكررًا للضمير حثًا على المبالغة في طلب العون: {وإياك نستعين} إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة: فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضي الله عنها: «أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك» ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله: «لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك» وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث.
قال الحرالي: وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جاريًا على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلًا لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهرًا منهم لطفًا بهم وإتمامًا للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذًا ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمدًا وثناء وتمجيدًا، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شيء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبدًا وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله: {نعبد} بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى.
وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال: {اهدنا الصراط المستقيم} تلقينًا لأهل لطفه وتنبيهًا على محل السلوك الذي لا وصول بدونه، والهدى قال الحرالي: مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك، والآية من كلام الله تعالى على لسان العُلّية من خلقه، وجاء مكملًا بكلمة أل لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقًا لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله.
وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطًا منه.
{ووجدك ضالًا فهدى} [الضحى: 6] وأما من هدى وجهة ما فضلّ عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة. انتهى.
ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبهًا بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدوًا كان أو وليًا، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية.
يعني لو قيل: اتبع طريق أهل مصر مثلًا لا أهل دمشق، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به، بخلاف ما لو قيل: اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة، فإنه يعلم أن الظلمة منهم، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد، ومن المعلوم أن السلوك لابد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ، فعرف أن المسؤول إنما هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيرًا منهم، فعرف أنهم قسمان: قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفًا بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفًا بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة: {غير المغضوب عليهم} أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت: {غير} لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل: الحركة غير السكون، ولما كان المقصود من: {غير} النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة على بناء الكلام بادئ بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصونًا للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا: {ولا الضالين}.
فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامدًا أو مخطئًا شقي ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم. قال الحرالي: {المغضوب عليهم} الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى.
{الضالين} الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك.
أمين كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز، ومن ثم اشتراط في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم. قال الأصبهاني: فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب. انتهى.